الموضوعية في البحث والنفس البشرية
تقديم
تُفسّر (الموضوعيّة = Objectivité) في كثيرٍ من كتابات المعاصرين، على أنّها تجرّدُ الباحث من كلّ شيءٍ كان يعلمه من قبلُ، واستقبالُه موضوعَ بحثه خاليَ الذّهن ممّا قيل فيه خلوًّا تامًّا[1].
تداول المصطلح بين الباحثين
لقد غدا هذا المصطلح شائعا في عصرنا، لكثرة تداوله بين الباحثين، مع أنه ليس من مصطلحاتنا العلمية – معشرَ المسلمين –. ثم هو لا يسلم من ظلال من الرِّيبَة تكتنفه، إذ يطلق على المنهج، وعلى الأسلوب المجرد عن المؤثرات الذاتية، بما فيها المؤثرات الدينية والاعتقادية، لأنه منبثق من الأساس العَلماني الذي قام عليه المنهج الغربي، والذي يناقض تمام المناقضة المنهج الإسلامي في البحث والمعرفة.
طه حسين والموضوعية
غَلاَ طه حسين (ت 1393 هـ) في تفسير الموضوعية غلوًّا تامًّا، وجازف مجازفةً بليغةً، لا يكاد العَجَبُ ينقضي منها، حيثُ قال: «يجب حينَ نستقبل البحث... أن ننسى قوميّتنا وكلّ مُشَخَّصَاتِهَا، وأن ننسى ديننا وكلّ ما يتّصل به، وأن ننسى ما يضادّ هذه القوميّة وما يضادّ هذا الدّين، يجب أنْ لا نتقيّدَ بشيءٍ، ولا نُذْعِنَ لشيءٍ إلاّ مناهج البحث العلميّ الصّحيح»[2]! وأقول مرّة أخرى – كما قالت العربُ قديمًا في أمثالها –: «ما أسهل الدّعوى، وما أعزّ المعنى!» فلو حاكمنا كتاباتِ طه حسين في الأدب العربيّ؛ شعرِه، ونثرِه، وتاريخِه، وأعلامِه، إلى تفسيره هذا للموضوعيّة، لضربنا بها عُرْضَ الحائط، ولجعلناها دَبْرَ آذاننا، ولم نلتفْ إليها أبدًا، لأنّها لا تَعْدُو أنْ تكونَ أحكامًا مسبقةً على الأدب العربيّ، تلقّفها من أفواه أساتذته المستشرقين، الّذين تلمّذ عليهم في جامعة (السّوربون = Sorbonne) بفرنسا. كما أنّها محضُ سطوٍ على مقالة المستشرقِ (مرجليوث = Margoliouth) في الشّعر الجاهليّ. فأنّى لها خلاقٌ من موضوعيّته الّتي يَدْعُو إليها؟!
نقد تفسير طه حسين الموضوعيةَ
إنّ هذا التّفسير الّذي سَلَفَ للموضوعيّة، لا يمكن أن يتحقّق به أحدٌ مطلقًا، مهما زَعَمَ أنّه متحقّق به، بل لا يُتَصَوُّرَ تحقّقه إلاّ في الذّهن، أمّا في الخارج، فلا. بل لو تحقّق بتفسيرِ مَجْمَعِ اللّغة العربيّة لها، الّذي يقول إنّها: «... مسلكُ الذّهن الّذي يرى الأشياءَ على ما هي عليه، فلا يُشَوِّهُهَا بنظرةٍ ضيّقةٍ، أو بتحيّزٍ خاصٍّ»[3]، لكان قريبًا؛ ذلك أنّ البحث في العلوم الإنسانيّة بوجهٍ خاصٍّ، تتداخل فيه الذّات بالموضوع أيَّما تداخلٍ، بل هي جزءٌ منه؛ من حيثُ إنّ موضوع الدّراسة هو: المنتوج الفكريّ للذّات الإنسانيّة، الّذي هو حصيلةُ تفاعل منذ الصّبى إلى أن يصيرَ الإنسان مُبِينًا عن نفسه، بين جملةٍ من مُكَوِّنَاتِ مجتمعِه، تتمثّل في: الدّينِ، واللّغةِ، والثّقافةِ، والأحاسيس، والمشاعر، والميول، والغرائز، والأهواء... فكيف يستطيع أنْ ينفكَّ عن هذا كلّه انفكاكًا تامًّا، لا يبقى معه أيُّ أثرٍ لتلك المكوّنات في النّفس البشريّة؟! حتّى طه حسين مـع غلوِّه ذاك، قد أقرّ بهذا مُسْتَدْرِكًا على كلامه السّابق – كأنّه يناقضُ نفسه –، إذ يقول: «... ولكنْ هذه طبيعة الإنسان لا سبيل إلى التّخلّص منها»[4].
متطلّبات الموضوعية
فالتزام الموضوعية – إذًا – «يتطلّب من الباحث ألا يدافع عن آراء يؤمن بها إيمانا مسبقا، فيجعله يختار من أدلة البحث والتحليل ما يؤيّد به هذه الآراء، ويمكّنه من الدفاع عنها والتعصب لها عن وعي وإدراك، ويتجاهل في نفس الوقت الأدلة التي تنفي وجهة نظره، ويمضي في بحثه إلى أن يصل إلى النتيجة التي أراد أن يصل إليها منذ البداية»[5].
خاتمة
وحسبُ الباحث في بحثه أنْ يكونَ متحليًّا بـ (الأمانة العلميّة)، متخليًّا عن (الخيانة العلميّة!)، وتلك الأمانةُ إنّما تنشأ في النّفس بالتزامِ (الضّابط التّعبّديّ الأخلاقيّ) لا غيرُ. فيرى الباحث الأشياء على ما هي عليه، فلا يشوّهها بنظرةٍ ضيّقة، أو تحيّزٍ خاصّ، أو ما يُسمّى بـ (المذهبيّة = Idéologie).
ولله درّ القائل: «... إنَّ فلاحَ الأمّة في صلاح
أعمالها، وصلاحَ أعمالها في صحّة علومها، وصحّةَ علومها في أنْ يكونَ رجالُها
أمناءَ فيما يَرْوُونَ ويَصِفُونَ، فمن تحدّث في العلم بغير أمانةٍ، فقد مسّ العلم
بِقُرْحَةٍ، ووضع في سبيل فلاح الأمّة حَجَرَ عَثْرَةٍ»[6].
فالأمانةَ الأمانةَ!
[1] - يُنظر على سبيل المثال: في الشّعر الجاهليّ، طـه حسين، (ص 23). وفي
الأدب الجاهليّ، لـه أيضًا، (ص 65).
[2] - يُنظر: المصدران نفسهما، (ص 24) و(ص 66).
[3] - ينظر: المعجم الفلسفيّ، (ص 197).
[4] - يُنظر: في الشعر الجاهليّ، (ص 25). وفي الأدب
الجاهليّ، (ص 67).
[5] - مفاتيح منهجية، عبد الواحد الناصر، (ص 30).
[6] - يُنظر: حلية طالب العلم، بكر عبد الله أبو زَيْد (ت 1429 هـ)، (ص 59). والقائل هو المصلح محمّد الخَضِر حُسَيْن الحَسَنِيّ التّونسيّ (ت 1377 هـ).